بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 12 أكتوبر 2013

حول ظهور الإنسان في عصور ما قبل التاريخ و أثر البيئة و العمل في الأنسنة


بسم الله الرحمن الرحيم


حول ظهور الإنسان في عصور ما قبل التاريخ و أثر البيئة و العمل في الأنسنة ............................................................
.................من أهم الأمور التى تواجه الإنسان هو التساؤل المتعلق بأصله و مصيره لأن البشرية كانت و لا زالت تواقة لأن تعرف كيف و متى و من أين أتت و إلى أين هي ذاهبة ؟ .............
و لكن التساؤل الأبرز الذي فرض نفسه على علماء ما قبل التاريخ و الباليوأنثروبولوجي ( علم الإنسان القديم ) هو : متى ظهر الإنسان لأول مرة في عصور ما قبل التاريخ ؟ و كيف لنا أن نتعرف على الشروط و المعايير التى تجعلنا أن نطلق على هذا الكائن لقب إنسان ؟ و حقيقة الأمر أن تعريف الإنسان قضية معقدة تتداخل فيها معايير فزيولوجية و إجتماعية و فلسفية و حضارية . و تزداد هذه القضية تعقيدا عندما نعلم أن الرئيسات المعاصرة ( و لاسيما القرود ) تتشابه مع الإنسان في العديد من الصفات كحجم المخ المتطور و بنية أطرافها و فكيها و أسنانها و هيكلها العظمي و جهازها العصبي بل و بنية الرحم و الولادة و فصيلة الدم !
و لاريب أن ذلك التشابه الشديد أفضى لأن يعتقد الباحثون في وجود أصل واحد قديم و مشترك لكل من الإنسان و الرئيسات على حد سواء . كما أدت أعمال التنقيب التي جرت بحثا عن هذا الجد المشترك إلى إكتشاف العديد من الكائنات الحفرية القديمة ( و هو علم الباليونثولوجي – علم الحفريات القديمة لجميع الكائنات الحية ) التى تحمل الصفات المشتركة بين القرد و الإنسان . و قد وجدت في مناطق عديدة من أوروبا و آسيا و أفريقيا ضمن طبقات جيولوجية تتراوح أعمارها بين 30 – 8 مليون سنة . و كان من هذه الحفريات القديمة التى إعتقد علماء ما قبل التاريخ ( و بفعل إيمانهم بنظرية التطور الداروينية ) أنها الأصل المشترك القديم للإنسان و القرد هو القرد المصري الشهير و المعروف في الأوساط العالمية بتسمية – إيجبتوبيثيكاس – و المؤرخ على حوالي 30 مليون سنة و الذي عثر عليه في الفيوم في مصر مما جعل الفيوم أشهر مواقع علم الباليونثولوجي على مستوى العالم بأكمله نظرا لإعتقاد بعض الدارسين بأن هذا الموقع يحتوي على الأصل الأول للرئيسات التى ظهرت فيما بعد في مراحل لاحقة ، حيث يعتقد علماء الباليونثولوجي و الباليوأنثروبوجي الداروينيين أنه كان الجد الذي أتى منه القرد الشجري ( درايوبيثيكاس ) الذي تفرعت منه أنواع أخرى إتجه بعضها نحو القرد الحالي بينما تطور البعض الآخر إلى الإنسان و لكن و بصرف النظر عن مدى قبولنا لهذه النظرية أو رفضها على المستوى العلمي نعيد طرح التساؤل السابق : من هو الإنسان في عصور ما قبل التاريخ ؟
يتفق الباحثون المعاصرون ( و الرافضون لنظرية داروين ) في علم الباليوأنثروبولوجي على شروط أساسية تميز الإنسان من بقية الكائنات و هي :
1 – من الناحية الفيزيولوجية ، الإنسان كائن منتصب القامة أى لديه القدرة على السير على قدمين بدلا من أربعة
2 – حجم دماغه كبير ، فهو يتجاوز في حده الأدنى الحد الأعلى لحجم دماغ أى من القرود الشبيهة بالإنسان ، فإذا علمنا أن حجم دماغ الغوريلا لا يتجاوز ال 450 سم مكعب ، فإن دماغ الكائن الإنساني يجب أن يزيد على هذا الرقم .
3 – أما عن الشروط الحضارية للأنسنة ، هو قدرته على القيام بعمليات ذهنية معقدة أي الذكاء ، و هو الذي مكن الإنسان الأول من التحكم بمحيطه و بيئته و إخضاع كل معطياتها لحاجاته و هي قدرة لا تتوفر في القرود على الإطلاق ، فالقرد غير قادر على إخضاع البيئة لحاجاته مثل قدرة الإنسان .
4 – يتجسد الذكاء الإنساني في عصور ما قبل التاريخ في شكل تفكير هادف و منظم قاده إلى صنع أقدم المنتجات في تاريخه و هي : الأدوات و الأسلحة الحجرية التى تعد الدليل على إنسانيته بمعنى أن القدرة على صنع الأدوات هي التى ميزت الإنسان من الكائنات الأخرى التى تستعمل أحيانا الأدوات الطبيعية كالعصى و الأحجار لكنها لا تصنعها أبدا لذلك فإن بداية المجتمع الإنساني هي لحظة صنع الأداة الأولى .
و إذا أردنا تتبع ظهور الشروط الإنسانية على مدى الزمن في عصور ما قبل التاريخ ، نلاحظ أن الصفات الفيزيولوجية قد تحققت في وقت سبق بكثير نضج المميزات الحضارية بمعنى أدق ، أنه ثبت لدينا بما لا يدع مجالا للشك ظهور كائنات قادرة على أن تسير بقدمين و كان لها حجم دماغ كبير منذ حوالي ستة ملايين سنة ( سنتحدث عنها إن شاء الله في مقال لاحق ) ، و لكنها لم تتوصل إلى صنع الأدوات إلا منذ حوالي 2,5 مليون سنة ، فهل من الممكن أن نطلق على هذه المخلوقات لقب إنسان بالمعنى الكامل طبقا لما تقدم ؟
إن علماء ما قبل التاريخ يحددون ذلك التاريخ و هو 2,5 مليون سنة كبداية للحديث عن الإنسان بالمعنى الكامل علما بأن هناك تأثيرا متبادلا بين كل من الصفات الفيزيولوجية و الحضارية لأن القامة المنتصبة و حجم الدماغ ساعدا على صنع الأدوات ، كما أن صناعة الأدوات و التحديات البيئية قد أدت إلى زيادة في مرونة الجسم و الأطراف و إلى كبر حجم الدماغ الذي تضاعف مرتين تقريبا عما كان عليه وقت إبتكار الأداة الأولى .
ما هو أثر البيئة في تطور عملية الأنسنة ؟
لا ريب أن البيئة و الظروف الجغرافية و المناخية كان لها أثر هام في تطور عملية الأنسنة و دلت البحوث على حقيقة هامة و هي :
أن منطقة شرق و جنوب القارة الأفريقية ظهر فيها الإنسان الأول – و إن كان هناك من العلماء من يشكك حاليا في هذا الطرح – و كان بداية ظهوره في نهاية الدهر الجيولوجي الثالث و بداية الدهر الجيولوجي الرابع منذ حوالي 2,5 مليون سنة ، فكيف كانت الظروف البيئية و المناخية في الفترة التى ظهر فيها البشريات المبكرة ؟
جفت المستنقعات و تراجعت الغابات الكثيفة و سادت السافانا شبه الصحراوية مما هيأ الشروط الملائمة لنزول الرئيسات ( البشريات المبكرة و أسلاف القردة المعاصرة ) من الشجر و كانت هذه الظروف قد ساعدت على تأقلمها التدريجي في العيش على الأرض
و لا ريب أن لحظة ترك الشجرة من العوامل الهامة التى أعقبتها تغييرات فيزيولوجية كبيرة في بنية تلك الكائنات لأن الإنتقال بين الشجرة و الأرض أجبرها على إكتساب أوضاع جديدة تسهل حركتها كالوثب و الركض و التأرجح و الصعود و الهبوط مما أدى إلى تغيرات فيزيولوجية هامة تمثلت فيما يلي :
1 – تغيير في بنية العمود الفقري بشكل أصبح فيه الرأس و معه الجسم يرتكز على العمود مباشرة ، مما ساعد على إكتساب القامة المنتصبة التي صارت إحدى الشروط الإنسانية الرئيسية
2 – تسطح القدم و قصر الحوض و عرض و تسطح الصدر .
3 – قويت فاعلية النظر و الشم و اللمس و كبر حجم المخ و تعقد تركيبه بينما صغرت عظام الفك و الأسنان
4 – أدى إنتصاب القامة و السير على قدمين إلى تحرير اليدين من الإرتكاز عليهما أثناء المشي فأصبحت الأصابع ذات مرونة
5 – إشتركت اليد في وظائف جديدة أكثر إرتباطا بمراكز التفكير في الدماغ ، فكانت الأسلحة و الأدوات الدليل الأكبر على التنسيق بين عمل اليد و المخ .
و من هنا يمكن لنا أن نستنتج قاعدة هامة في أولى الفترات الحضارية للبشريات المبكرة و هي : إن الصفات الفيزيولوجية و الحضارية للبشريات المبكرة ما كانت لتنمو لولا شروط البيئة الجغرافية و المناخية المواتية و قدرة الإنسانيات الأولى على التعامل مع هذه البيئة و إيجاد الوسائل التي مكنتها من تأمين حاجاتها منها .
و هناك مجموعة من الحقائق التي ينبغي للدارس أن يشير إليها عند الحديث عن عملية أنسنة البشريات المبكرة و هي :
1 – كان لخلق الإنسان الأداة الأولى او السلاح في تلك الفترة منذ حوالي 2,5 مليون سنة الأثر الأكبر في عملية الأنسنة و في الخروج من الأفق الحيواني و الإنتقال إلى العالم الإنساني
2 – تميز ذلك العالم الإنساني لدى البشريات المبكرة بالعمل الجماعي في صيد الحيوانات الضخمة و المتوحشة و إلتقاط الثمار و النباتات البرية من خيرات البيئة المحيطة .
3 – بفضل هذا العمل المشترك تمكنت البشريات الأولى من الحصول على الغذاء و عمل المأوى و الدفاع عن نفسها .
4 – كان العمل هو الخيار الوحيد للبشريات المبكرة و لا سيما و أنهم وجدوا أنفسهم دائما في مواقف تهددهم بالفناء و خاصة عند مواجهة الحيوانات الضارية .
يتبين لنا مما تقدم أن البشريات الأولى لعصور ما قبل التاريخ لم تكتمل إنسانيتها إلا ضمن إطار جماعة بشرية تكاتفت جهودها و تضامنت مع بعضها و ذلك لأن الفرد وحيدا هو عبارة عن حيوان متوحش و لولا العمل المشترك و تكوين إرهاصات أولى لمجتمعات صغيرة العدد و بسيطة التكوين لما تحكمت هذه البشريات المبكرة فيما حولها و لما أصبحت سيدة لكونها القديم الذي عاشت فيه .

محمد عبد الحى 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق